نجاسة المني
يفتي أكثر المعاصرين بطهارة المني ، و لا يعرج بعضهم حتى على ذكر من قال بنجاسته . و يتلقى كثير من الطلبة المسألة و كأنها قول واحد . وسأعرض لك أدلة من يقول بنجاسته لعلك تدرك مجازفة من يقول بخلافه .
قال النووي رحمه الله في ( شرح مسلم ) : اختلف العلماء في طهارة المني الآدمي ؛ فذهب مالك و أبو حنيفة إلى نجاسته ، إلا أنّ أبا حنيفة قال : يكفي في تطهيره فركه إذا كان يابسا ، و هو رواية عن أحمد ، و قال مالك : لا بد من غسله رطبا و يابسا . و قال الليث : هو نجس و لا تعاد الصلاة منه ، و قال الحسن ( ابن صالح ، كما في نيل الأوطار ) : لا تعاد الصلاة عن المني في الثوب ، و إن كان كثيرا ، و تعاد منه في الجسد و إن قل . و ذهب كثيرون إلى أن المني طاهر ، روي ذلك عن علي بن أبي طالب و سعد بن أبي الوقاص و ابن عمر و عائشة ، و داود و أحمد في أصح الروايتين و هو مذهب الشافعي و أصحاب الحديث ... اهـ قلت : ليس في آثار الصحابة الذين ذكرهم ما يدل على أنهم يقولون بطهارة المني ؛ فسعد بن أبي الوقاص ، كما في ( مصنف ) ابن أبي شيبة و ( شرح معاني الآثار ) للطحاوي ، "كان يفرك المني من الثوب " . قال الطحاوي ( 1/52) : يحتمل أن يكون كان يفعل ذلك لأنه عنده طاهر ، و يحتمل أن يكون كان يفعل ذلك كما يفعل بالروث المحكوك من النعل ، لا لأنه عنده طاهر .اهـ
و أما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فالثابت عنه نجاسة المني ؛ ففي ( مصنف عبد الرزاق 1/369) و ( الإستذكار 1/359-361) و غيرهما قال ابن عمر : " إذا علمت أن قد احتلمت في ثوبك و لم تدر أين هو، فاغسل الثوب كله ، و إن لم تدر أصابه أم لم يصبه فانضحه بالماء نضحا "
بل و قد روي عنه أبعد من هذا ؛ فقد روى ابن أبي شيبة في ( المصنف 1/60) :عن ابن أفلح عن أبيه قال : صليت و في ثوبي جنابة ، فأمرني ابن عمر فأعدت الصلاة ."
و أما عائشة فالمشهور عنها أنها كانت تحته ، و ليس في فعلها ذلك ما يدل على أنها كانت تراه طاهرا ، بل روى الطحوي (1/51) عنها أنها قالت : " إذا رأيته فاغسله و إن لم تره فانضحه "
و روى الدارقطني ( 1/125) عنها إنها قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يابسا ، و أغسله إذا كان رطبا ". و عزاه الشوكاني لأبي عوانة في صحيحه و البزار ، و ذكر أن البزار أعله بالإرسال .
و الحاصل أنه ليس في شيء من آثار الصحابة ما يدل أنهم كانوا يتركون المني دون إزالة ، و قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بحته " أخرجه ابن الجارود في ( المنتقى ) و صححه الحافظ في ( التلخيص 1/191) و أقره أحمد شاكر في حاشيته على ( المحلى 1/127) و أصل الأمر الوجوب كماهو مقرر في " الأصول ".
و قد اتفق الصحابة على الإعتناء بإزالته ؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول :" اغسل ما رأيت و أنضح ما لم تر"
و قال أبو هريرة في المني يصيب الثوب : " إن رأيته فاغسله و إلا فاغسل الثوب كله "
و سئل جابر بن سمرة رضي الله عنه عن الرجل يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله ؟ قال : " صلّ فيه إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله ، و لا تنضحه فإن النضح لا يزيده إلا شرا "
و سئل أنس رضي الله عنه عن قطيفة أصابتها جنابة لا يدري أين موضعها ؟ قال :" اغسلها " أخرج هذه الآثار الطحاوي في ( شرح معاني الآثار 1/51-53).و قد صح عن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها و قد سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في الثوب الذي يضاجعك فيه ؟ فقالت : " نعم إذا لم يصبه أذى " و عند ابن الجارود (رقم 132) : " نعم إذا لم ير فيه أذى"
و أما القائلون بطهارة المني فلا نص لهم في ذلك إلا أحاديث ( الفرك) أو ( الحت) . و قد رد الشوكاني ( النيل 1/67 دار الجيل ):
" و أجيب بأن ذلك لا يدل على الطهارة ، و إنما يدل على كيفية التطهير ؛ فغاية الأمر أنه نجس خفف في تطهيره بما هو أخف من الماء . و الماء لا يتعيّن لإزالة جميع النجاسات كما حررناه في هذا الشرح سابقا . و إلا لزم طهارة العذرة التي في النعل ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بمسحها في التراب و رتب على ذلك الصلاة فيها "
و قال أيضا : " قالوا : الأصل الطهارة ، فلا ينتقل عنها إلا بدليل . و أجيب : بأن التعبد بالإزالة غسلا أو مسحا أو فركا أو حتا أو سلتا أو حكا ثابت ، و لا معنى لكون الشيء نجسا ، إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع . فالصواب : أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة " اهـ و هو كلام في غاية الحسن كما قال العلامة المباركفوري في ( تحفة الأحوذي 1/114).